مسٍاحات الانتقال من حكومة المؤتمر الوطني الي حكومة لكل السـودان.
مدخل:
إنتهت القمة الإفريقية بصفعة قوية لحكومة الوحدة الوطنية، والتي كانت قد عقدت عليها آمالاً عريضة لمساعدتها على القفز فوق حاجز أزماتها الداخلية وعزلتها الدولية، لكن يبدو أنه لم يتحقق حتى اليسير منها لحكام الخرطوم. بل على العكس من ذلك، إذ تؤكد الكثير من المؤشرات على تفاقم محنة المؤتمر الوطني وإنكشاف ظهره على المستوى الإقليمي والقاري. واضحى النظام كمن فقد بوصلة إتجاهاته السياسية في التعامل مع أزماته الداخلية، خاصة فيما يتعلق بالملفات الساخنة في دارفور وشرق السودان، وفشل رهانات سياساته الخارجية من خلال القمة الأفريقية. وقد صاحب هذه الضربات خذلان رهانه حتي علي أقرب الدول الإفريقية/العربية في الشمال الافريقي الذين تسسللوا مبتعدين ومتنصلين بتصريحات عمومية لا تغني الحزب الحاكم من جوع.
وليس بالأمر المستغرب وصول النظام إلى هذه الحالة المتدنية بحكم أنة ظل يدير أزمة الدولة السودانية في أطار التعامل التكتيكي وعزوفة عن الرؤي الإستراتيجية لقضايا دارفور أو شرق السـودان، أو مد جسور الثقة الحقيقية للحركة الشعبية وباقي القوي السياسية للإتفاق حول الخطوات الضرورية لمعالجة المحكات التي تكاد أن تعصف بالسودان بأكمله، وجعل خيار الوحدة الوطنية "جاذب"، لأ للجنوب وحده وانما لكافة قوي الهامش. لا زال حزب المؤتمر الوطني يتعامل مع التطورات الخطيرة للأزمة من خلال همه المقيم والاول وهو "البقاء في السلطة فقط ". هذه الحقائق أكدتها تصريحات النائب الأول للرئيس الجمهورية ورئيس الحركة الشعبية سلفا كير في مؤتمرة الصحفي بتاريخ 28-1-2006 بالخرطوم، والذي أبان فيه أن المؤتمر الوطني لم يقدم حتى الآن ما يجعل وحدة السودان جاذبة عند استفتاء الجنوبيين على حق تقرير المصير. ولعل السيد النائب الاول، وهو رجل لا يلقي الكلام علي عواهنه، لم يشاء أن يفاقم الازمة أكثر ولكنه بالاضافة للقضايا المتعلقة مباشرة بتنفيذ إتفاقية السلام أوضح أن المؤتمر الوطني "ليس جاداً في إشراكنا في التسوية ولا يريد أن يتفق معنا على أسس الحل حتى نستطيع إقناع الحركات المسلحة في دارفور والشرق بالحل".
إن تسارع الأحداث في دارفور، والشرق وتواصل "الاستهزاء" بإتفاقية السلام والشراكة مع الحركة الشعبية اضافة لعزلة النظام الخارجية التي أكدتها القمة الأفريقية، هي مؤشرات لتسارع غرق الموتمر الوطني في دوامات متزامنة وعالية التأزم. ويحدث كل ذلك في مرحلة تتمدد فيها ويتزايد انتشار قوات الأمم المتحدة. الأمر الذي مهما كانت المسميات له، يعني إنتقاص (ان لم يكن إنتفاء) سيادة دولة المؤتمر الوطني. فكيف إذاً يمكن أن تتطور الامور؟ هل سيفيق الحزب الحاكم الي حقيقة فشله في المحفاظة علي الوطن وأمن وسلامة وإستقرار وكرامة السودانين، كل السودانين؟ أم سيواصل بذات النهج؟ المؤشرات تدلل على تواصل سياسات دفن الرؤوس في الرمال كما يشير إلى ذلك السماح للطيب مصطفي بأصدار جريدة "- الانتباهة" وتكوين حزبه الداعي لإنفصال الشمال إضافة إلى مقترح عبد الرحيم حمدي بحصر الاستثمارات والتنمية في مثلث الوسط والذي لم يرفضة اوينكره الحزب الحاكم.
دارفور والتطور نحو الأبعاد الإقليمية في الصراع:
مرت الأزمة بدارفور بمراحل عديدة ممتدة منذ عهد جعفر النميري ثم حكومة الصادق المهدي في الديمقراطية الثالثة، والتي تميزت بإعتبار مايدور مجرد عمليات "نهب مسلح" الأمر الذي اسهم في تفاقم الصراع وادخالة مراحل حرجة بإستخدام التباين العرقي في الإقليم وتجنيد القبائل العربية ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان وتسليحها بواسطة الحكومة "البرلمانية المنتخبة". هذه السياسة نقلت الصراع من عنف غير منظم تمارسه بعض المجموعات العربية ضد القبائل النيلية (الدينكا) حول مصادر الرعي إلى عنف منظم تقوده الدولة لتصفية حساباتها مع الحركة الشعبية. وبمرور الوقت عجزت الحكومة عن السيطرة على العنف والذي تمدد ليشمل أعداء جدد في نفس الإقليم. ورث نظام الإنقاذ هذه الوضعية وبدلاً من العمل وفقاً لأجندة وطنية حقيقية تشجع التصالح بالإقليم، عمق الصراع بسياسات أكثر منهجية وتنظيماً مما ادي لإتساع العنف والدمار. بالمقابل تطورت حركات المقاومة بدارفور لتصبح أكثر قدرة وتنظيماً من سابق عهدها سواءاً على صعيد العمل السياسي أو المسلح. تتمثل المرحلة الثالثة في تطور هذا الصراع إنتقاله من إطاره الداخلي إلى الإطار الإقليمي والدولي من خلال تدخل قوات الإتحاد الإفريقي، والحركة الحثيثة حالياً في المجتمع الدولي لإدخال قوات الأمم المتحدة بموجب "الفصل السابع" من ميثاق الامم المتحدة والذي يخول لها استعمال القوة لإحتواء الاوضاع المتردية.
بوصول الصراع في دارفور إلى هذا المستوى من التعقيد، تدخل الاوضاع منعطفاً حرجاً، وفي الغالب قد تؤدي نتائجه النهائية إلى إندلاق العنف إلى مناطق أخرى في العمق السـوداني. فعلي صعيد الحركات التي تقاتل النظام الآن بدارفور، قد يعني هذا التدخل الدولي تقوية لموقفها السياسي وسط الجماهير، خصماً على النظام. وعلي الرغم من هذه الأوضاع الحرجة، زاد النظام من إشكالياته بالأزمة التي نشبت بينه وبين النظام التشادي، والتي هي نتاج العقلية التآمرية وإدمان التعامل التكتيكي علي حساب الرؤية الإستراتيجية. فإلى مدى قريب كان النظام التشادي ـ وفي أحسن الفروض ـ يقف موقف المتفرج مما يدور بدارفور، بل أنه كان أحياناُ كثيرة يتعامل بفظاظة مع فصائل المعارضة المسلحة حرصاً على علاقته مع النظام بالخرطوم، حتي تصور البعض "أنه لا توجد أسباب أو مصلحة سودانية مباشرة لدعم المعارضة التشادية في الوقت الراهن". بالتالي تفجر الاوضاع بين الخرطوم وانجمينا كان مفاجأة غير متوقعة.
ينوه عرابو النظام الى احتمالين لتفسير إدعائهم "بإصرار تشاد على التصعيد" والذي فشلت ليبيا وافريقيا الوسطى في معالجته: التبرير الأول في رأي هؤلاء، "يتعلق بالتأثيرات السلبية لأي تقدم في تسوية ملف دارفور على تشاد، من زاوية التداخل السكاني وما يجلبه من مشكلات في حالتي الهدوء والتصعيد، وكثافة المعارضة في الشريط الحدودي وعدم استبعاد تأثرها بتصرفات متمردي دارفور في الحرب وتطبيقها للضغط على حكومة إنجمينا، فضلاً عن التلاحم القبلي بين غالبية الحركات المسلحة في الاقليم والسلطة الحاكمة في تشاد، مما يفرض على الأخيرة التزامات معينة قد لا تستطيع الوفاء بها". والتبرير الثاني عندهم،:"أن تشاد قامت بتحركها مدفوعة بحسابات دوائر خارجية، تريد إقحام السودان في ركن من التوتر المستمر الى حين ترتيب أوضاعه بصورة متكاملة. وما يضاعف من ترجيح هذا الاحتمال تزامن التصعيد مع بعض النداءآت الدولية بالتدخل وارتفاع سقف المطالب الأميركية من السودان...".
حقيقة الامر أن "النداءات الدولية بالتدخل" مردها تفاقم الاوضاع في دارفور وإستمرار المآسي الانسانية وتدفق النازحين وتزايد احتمالات الانهيار، ومخاطر هذه التطورات علي الدول المجاورة وبالذات المجموعة الفرانكفونية. الاتهامات الصادرة من تشاد كانت واضحة ومحصورة في دعم نظام البشير لـ"حركة التجمع من أجل الديمقراطية والحرية" التشادية للاطاحة بالحكومة. أما دوافع الخرطوم من وراء ذلك التحرك فهي الرغبة في إيجاد حل حاسم وتصفية سريعة للأوضاع في دارفور "قبل مؤتمر قمة الأتحاد الافريقي". وبواقع حسـابات الخرطوم، فإن الوصول الي ذلك الهدف يستدعي تغيير النظام في إنجمينا واحلاله بمجموعة موالية تماماً للمؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم، تشاركه عسكرياً في حصار وتوجيه ضربة قاضية لحركات المقاومة الدارفورية. إتضاح هذا الأمر للرئيس دبي دفع به لإعتماد سياسة متشددة تجاه الخرطوم بعد وصوله إلى نقطة اللاعودة في علاقاته الثنائية معها. هذه السياسة الجديدة لإنجمينا أكدتها الاحداث التي صحبت قضية رئاسة القمة الأفريقية بالخرطوم، والمعارضة الشرسة لتشاد علي إستضافة السودان لها ثم علي رئاستها، الشئ الذي ما كانت حكومة الخرطوم تحسب له أي حساب. فإدريس دبي وعلى الرغم من غيابه من القمة بالخرطوم، تمكن من التأثير بقوة على نتائجها من خلال ارتباطاته بمجموعة الدول الفرانكوفونية. كما أن مخطط الخرطوم أزعج باريس والتي قدمت دعم سخي تحسباً لأي تداعيات متسلسلة (Domino Effect) ربما تؤدي إلى سقوط دول أخري في المنظومة الافروفرانكفونية. عليه فإن إنعكاس هذه التطورات الإقليمية والدولية على النزاع في دافور قد يتخذ أشكال وملامح عدة، أهمها الدعم والمساندة لهذه الحركات وبمستويات مختلفة(دعم سياسي، لوجستي وغيره).
إن الموقف الجديد لتشاد ينبئ بإنعكاسات له على الصراع في دارفور أقلها في نوعية الدعم لحركات المقاومة(تحرير السودان والعدل والمساواة) سواء إن كان من إنجمينا أو من دول أخرى عبرها. كما أن هذا الموقف الجديد غير معزول من التحركات الدولية في المنطقة، وعلي سبيل المثال عند نشوب الأزمة التشادية السودانية وصل إلى المنطقة رئيس أركان الجيش الفرنسي وهو مؤشر لإهتمام باريس وقلقها البالغ تجاه هذه التطورات بتشاد ودارفور. وعملياً فإن سقوط النظام في تشاد يعني إنتقال القلاقل إلى حزام الدول الفرانكوفونية مما يمثل تهديداً مباشراً لدول المجموعة ومن ورائها المصالح الفرنسية في المنطقة، وهو ما لا تسمح به فرنسا. :ذلك علي الصعيد السياسي في دارفور قد تتغير أجندة حركات المقاومة بإتجاهات أكثر تشدداًَ، وهو الأمر الذي بدت مؤشراته من خلال الموقف الضاغط الذي إتخذته من إنعقاد مؤتمر القمة الأفريقية بالخرطوم والتهديد بالإنسحاب من طاولة التفاوض بأبوجا في حال فوز السودان برئاسة الإتحاد.
وعموماً فكل المقدمات تشير إلى أن الصراع في دارفور قد تصاعدت وتيرته، وقد يتمدد إلى كردفان على خلفية هذه التطورات الإقليمية. إضافة إلى ذلك أيضاً نجد متغيرات هامة على صعيد العلاقات بين الحركات نفسها، فعلي الرغم من أن الإنشقاق الذي عانت منه حركة تحرير السودان والصراع الذي قادته قبل فترة ضد حركة العدل المساواة قد أضعف موقفهما السياسي و الميداني بدافور. إلا أن التقدم الذي تحقق على صعيد توحيد جبهة هذه الحركات ضد النظام نجحت إلى حدما في التقليل من حدة تأثير هذه الإنشقاقات والمصادمات الداخلية، على الرغم من أن بعض الدوائر تقلل من أهمية هذا التقارب بقراءته على أساس أنه لايعدو كونه توحيد لمجموعة اثنية واحدة، متجاوزين بذلك عوامل موضوعية أخرى تتمثل في التباين الآيديولوجي بين الطرفين وتفاوت التداخل الإثني بينهما في علاقتهما بالسلطة الحاكمة في تشاد. غير أن ذلك قد لأ يؤثر في نشاط هاتين الحركتين ضد النظام. صحيح إن ذلك قد يقود إلى إنقسام قبلي آخر قائم علي محور(فور/زغاوا) على المدي البعيد من خلال الجروح التي تولدها المصادمات ما بين جناحي مني أركو مناوي وعبدالواحد، غير أن بعض المصادر ترى أن الأخير قد أصبح قاب قوسين أو أدني من التحلل والإنزواء بعيداً عن المسرح السياسي بدافور.
وبناءاً على هذه الفرضيات( المتغيرات الإقليمية لصالح الحركات المسلحة بدارفور، توحيد جبهتها الداخلية، تمدد التحرك الدولي في المنطقة، وفوق هذا وذاك تعامل النظام مع ملف دارفور برعونة)، من المحتمل أن يشهد الموقف العام تطوراً ملحوظاً يقود إلى توسع رقعة القتال ربما تصل إلى الأطراف الشرقية من كردفان. هذا على الصعيد العسكري، أما على صعيد المفاوضات بأبوجا، فمن المرجح أن نشهد تشدداً في المواقف بين الأطراف كلها، الحكومة تدفعها رعونتها، وقصر نظرها في التعامل مع قضية دارفور مدفوعة بطموحها في النجاح بتغيير النظام بتشاد لتعديل مسار الصراع في دارفور لصالحها، والحركات من الجانب الآخر يدفعها إلى الموقف المتشدد المتغيرات الإقليمية والدعم والسند الذي قد يترتب على هذه المتغيرات.
فإذا كانت جملة هذه المتغيرات تبني لنا مساراً واضحاً للأزمة بدارفور ملامحه تقود بإتجاه التصعيد، والذي قد يتم بحسب هذه الوقائع إلى إحكام القبضة والتضييق على النظام. فإن التدقيق في المشهد بدارفور يبرز عوامل دفع مضادة لهذا المسار، ربما تعمل على فرملته. ولمعرفة ذلك نطرح عدة أسئلة أهمهاً: أين ستقف الجبهة التي تضم حزبي الأمة والمؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي من هذه التطورات؟ بإعتبار أن الصادق المهدي، والترابي لهما قواعد بمنطقة دارفور، هل سيقفان مع هذه التطورات أم ضدها؟ ما هي المتغيرات التي قد تطراء على مواقف القبائل العربية(الجنجويد) هل ستستمر في موقفها المعادي لحركتي التحرير والعدل أم ستكون لهذه التطورات الإقليمية مفاجآت على هذا الصعيد؟؟ ما هو موقف الحركة الشعبية بإعتبارها شريك مع النظام في حكومة الوحدة الوطنية؟؟ هل ستقاتل إلى جانبه ضد حلفائها أم ستتخذ موقف المتفرج؟ وما هي فرص النظام في الضغط على الحركة لدفعها للخوض في رمال دارفور المتحركة؟؟ كلها أسئلة يصعب التكهن بإجابات لها في الوقت الراهن، لكن بعض من الضوء على الإحتمالات الممكنة لمواقف هذه القوى السياسية قد يقرب وبمرور الوقت الوصول الي إجابات نهائية.
حزب الأمة والمؤتمر الشعبي:
المعروف تاريخياً أن معظم قواعد حزب الأمة ووجود مقدر للشعبي يتمركز بدارفور وبعض مناطق الوسط وبالتالي فإن دخول هذه المنطقة في حرب طويلة الأمد حتماً سيؤدي إلى تغيرات في مواقف التشكيلات الإجتماعية المختلفة، لأن النزاع سيتخذ طابع الصراع من أجل البقاء وهو ما سيؤثر على الولاءات القديمة لهذه التشكيلات الإجتماعية، وهو الأمر الذي لا يحتمله حزب الأمة وحليفه المؤتمر الشعبي. فتغيير هذه الولاءات بحكم الصراع تعني تمزق نسيج الروابط الطائفية القديمة ونشوء إنتماءات جديدة قد تكون قبلية أو جهوية أو سياسية لصالح حركات المقاومة بدارفور. لذلك من المرجح أن يتحرك حزب الأمة بإتجاه موقف ما، تدفعه مصلحة الحفاظ على قواعده. وهنا تنفتح إحتمالات للحزبين قد تكون متناقضة فإما، أن يقفا في هذا الصراع مع النظام تدفعهما هذه المصالح إضافة إلى عامل الحفاظ على الطابع العروبي والإسلامي للمنطقة. أو قد يسعيا للتفاهم مع حركات المقاومة بدارفور لضمان الحفاظ على قواعدهما. والإحتمالين قد يزجان بهما في أتون الصراع بصورة من الصور. لكن وبالرغم من رؤية هذين الإحتمالين يصبح من الصعب التكهن بموقف لحزب الأمة لا يخرج من هذين الإحتمالين، وذلك إعتماداً على مواقف الصادق المهدي نفسه، والذي عودنا تاريخه السياسي دائماً على إتخاذه مواقف مترددة عندما تصبح الأمور الجسيمة على المحك. أما الترابي، فيبدو أنه أقرب إلى إحتمال إيجاد صيغة تعامل مع حركات المقاومة بدارفور، أولاًً بحكم طريقة تفكيره، وثانياً وصول عدائه للمؤتمر الوطني نقطة بعيدة المدى قد لا تسمح له بمصالحته مرة أخرى. إضافة إلى أن هناك الكثير من الدوائر تؤكد على وجود صلة ما له بحركة العدل والمساواة مما يرجح من إحتمال إتجاهه للتعامل مع الصيغة الجديدة التي طرحتها حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان.
القبائل العربية:
كما ذكرنا منذ البداية إن النقطة التي وصلت إليها هذه المجموعات العربية تقف من خلفها السياسات الخاطئة التي إختطتها أنظمة الخرطوم منذ عهد النميري. ومؤخراً إستغلها النظام بصورة بشعة تحت دعوى الدفاع عن العرب ضد ما يسمونه بـ "الزرقة" والذين يمثلون الزغاواة، الفور، المساليت وغيرهم من القبائل التي تنحدر من أصول أفريقية. ومع مرور الوقت تحولت هذه الدعوة إلى أيديولوجيا مرتبطة بمصالح إقتصادية إجتماعية/سياسية لهذه المجموعات، لعبت الحكومة دوراً رئيسياً في تكريسها. علي الرغم من ذلك وبسبب خلفية التطورات التي أشرنا إليها يبدو أن تغير مواقف هذه المجموعات أمراً وارداً، والذي قد تلعب فيه المؤثرات الإقليمية دوراً ما في إطار المزيد من الضغط على نظام الخرطوم وتجريده من أدوات صراعه بدارفور. لكن يبقى هذا التحول رهيناً بمدي تأثير وسيطرة حكومة الخرطوم على هذه المجموعات وبالمقابل قدرة حركات التحرير في تبني مصالحات عريضة تجمع كافة أهل المنطقة على أساس أن جميعهم ضحايا لآليات التهميش التاريخي التي طالت المنطقة.
الحركة الشعبية:
يبقى موقف الحركة الشعبية هو الأكثر تحرجاً من هذه الأزمة بإعتبارها من جانب، حليفة لإحدي هاتين الحركتين وقد ساهمت في فترة ما في دعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً. ومن جانب أخر، دفعت بها تطورات التوقيع على إتفاقية السلام لتكون شريكاً للمؤتمر الوطني. والموقف المعلن للحركة الشعبية أنها لن تقف موقف سلبي تجاه ما يحدث في دارفور وترى أن بمقدورها الإسهام بإيجابية للتوصل إلى سلام عادل بإعتبار أن تحقيق هذا الهدف يصب في شمولية الحل للأزمة السودانية وترسيخ السلام والإستقرار. لكن في كثير من الأحيان قد لا تفيد النوايا الحسنة عندما تصل التناقضات ما بين المصالح إلى مراحل حاسمة، فما يحدث في دارفور هو الآن صراع من أجل البقاء لجميع الأطراف. أيضاً هناك العوامل الموضوعية التي قد تقف حجر عثرة أمام حسن النوايا، فالحركة الشعبية، وبحكم إلتزامها بتنفيذ بنود الإتفاق (ومشاركتها في الحكومة) تصبح طرفاً في الصراع بدارفور. لكن وبالرغم من ذلك فعامل المفاجأت متوقع، ونستند في ذلك على الموقف القوي الذي صدر من قيادة الجيش الشعبي في حادثة همشكوريب الأخيرة، فقد كان المشهد جد غريباً إذ دفع المؤتمر الوطني بقوات لإستعادة المدينة فإذا بقوات الحركة تقف ليس في صف شريكها في "حكومة الوحدة الوطنية" وإنما في صف المعارضين لهذا الحكومة.
ثم كانت المفاجأة الثانية تصريحات رئيس الحركة والمشار إليها أعلاه، والتي تكشف أصرار المؤتمر الوطني على عدم مكاشفة شريكه (الحركة) في مجريات التفاوض بأبوجا أو الشرق. هذا شئ من أمرين، إما أن المؤتمر الوطني لا يثق في الحركة ولأ يأمن جانبها في التعامل مع حركات المقاومة في دارفور، أو لا يملك إستراتيجية للوصول إلى فض لذلك النزاع غير ماأوردناه سابقاً من مجرد الرغبة في الحفاظ على السلطة. وبالتالي يتضح من هذا أسباب ململة الحركة الشعبية وعدم رضاها عن الكثير من تصرفات شريكها في السلطة، مما يضع الإتفاق برمته على المحك. وقد لا نندهش إذما وقفت الحركة الشعبية موقفاً مسانداً لحركات دارفور خاصة إذا أصبحت الجبهة الجديدة بدارفور(تحالف القوي الثورية لغرب السودان) مقنعة سياسياً بإحتواء الإنشقاقات داخل حركة تحرير السودان، ومن ثم توسيع وحدة المواقف التفاوضية في أبوجا، إضافة إلى إستعادة المواقع المفقودة وسط المجتمع الدولي بسبب الإنشقاقات السابقة. مثل هذه التطورات قد تدفع الحركة الشعبية لإتخاذ مواقف مساندة تخذل رهان المؤتمر الوطني في الدفع بها للتقوقع والإنكفاء جنوباً، وهو الأمر الذي يبدو أن الخرطوم تعول عليه في كافة القضايا حتى لا تصبح الحركة الشعبية بثقلها إضافة لثوار دارفور والشرق، وتبتعد عن كافة قضايا الحكم تاركة المجال واسعاً للمؤتمر الوطني لتنفيذ أجندته. لكن سيكون من الصعب التكهن بما إن كان ذلك المخطط ممكن تنفيذه في خضم التناقضات التي تعصف بإتفاقية السلام وكذلك بسبب الوعي الثوري الكامن داخل الحركة الشعبية التي ناضلت على مدى أكثر من عقدين ضد الإقصاء والتهميش.
شرق السودان:
أيضاً على الجبهة الشرقية لا تبدو الأحوال أقل إستقراراً، وسمائها موعودة بإضطربات عاصفة. بداية هذه الإضطرابات شهدتها مدينة همشكوريب حيث تحركت مليشيات حكومية من قبائل البجا وأتباع سليمان بيتاي تدعمها قوات حكومية كبيرة والتي إشتبكت لفترة وجيزة مع قوات جبهة الشرق بعد أن طلب من الحركة الشعبية إجلاء الموقع. إلا أن الحركة إستدعت المزيد من قواتها مما رفع من حدة التوتر وأدي في نهاية الأمر لنشر قوات الأمم المتحدة في المنطقة. هذه الأحداث نبهت إلى العديد من الإفتراضات والتي من ضمنها إختبار موقف وقدرات الحركة في التعامل مع المستجدات. وفي هذا الصدد فإن تصرف غير الذي جرى من الحركة كان يعني إحراجها مع حلفائها السابقين في الشرق، ويشجع المؤتمؤ الوطني على المضي قدماً في تطبيق المزيد من أجندته دون وضع أي إعتبار لشريكه في الحكم. الفرضية الأخرى أن المؤتمر تحرك وفق إستراتيجية تهدف إلى إستنساخ تجربة الجنجويد لتعميق الشروخات داخل المجموعة الإثنية الواحدة وذلك إستعداداً لجولات المفاوضات في ليبيا.
الجديد في الأمر هو دخول ليبيا كوسيط ما بين جبهة الشرق وحكومة الخرطوم، وذلك على الرغم من التحفظات الغير معلنة من العديد من الأطراف والتي تنطلق من التجربة السابقة لفصائل التجمع للوطني الديمقراطي مع المبادرة المشتركة (المصرية الليبية) في أغسطس 1999. كذلك هناك الإرتباطات العميقة لطرابلس بالنظام والتي تجدد تأكيدها عند دعوة الرئيس الليبي لقيادة حركات التحرير في يناير 2006 وطلبه منهم إلقاء السلاح حماية لأرواح المسلمين الذين تقل أعدادهم عن معتنقي الديانات الأخرى في العالم(!). وكما هو معلوم سبق وأن تبنت طرابلس مفاوضات جزئية في نهاية ديسمبر مابين حكومة الخرطوم وتنظيم الأسود الحرة أحد فصائل جبهة الشرق. وذلك على الرغم من دعوة الجبهة بأكملها للتفاوض مع الحكومة. هذه التوجهات المتناقضة لا يمكن إرجاعها إلى القيادة الليبية وحدها وإنما بالتأكيد هو تحرك بإيعاز من الخرطوم وهو الأمر الذي يؤكد نهج النظام الإستهتاري في التعامل مع قضايا مصيرية والذي تمثل في تغذية طموحات شخصية للقيادة الليبية لتلعب دوراً يخدم مصالحها، ليس مع الشرق فحسب وإنما في دارفور أيضاً.
من هنا..إلى أين؟
هذا الرصد العام يبين نهج المؤتمر الوطني في التعامل مع القضايا الوطنية بمقتضى ماتفرضه المصالح الضيقة للتنظيم، وليس إستناداً على رؤية إستراتيجية لمستقبل الدولة السودانية أو العلاقات الإقليمية والدولية. ومن إستعراضنا للحالة السودانية يبدو واضحاً أن المهددات الحقيقية لفض النزاعات والمفاوضات لا تكمن في التأثيرات الخارجية أو ما يدعيه النظام من مؤامرت غربية أو صلبيبة أو غيرها ضد "التوجه الحضاري" وإنما هي حقيقة بسبب عامل داخلي خاص بمنهجية الجبهة وإصرارها على البقاء في السلطة وإستحلاب كل الثروات الوطنية والتعامل برؤى تفاوضية ترتكز على: "ما أملكه هو حقي وما يملكه الطرف الآخر هو قيد التفاوض بيننا". هذه النظرة الضيقة والإصرار على الهيمنة على السلطة والثروة هي التي جعلت دارفور قضية دولية للتطهير العرقي. وذات النهج نراه يدفع بالجبهة الشرقية للإنفجار. فقد أشارت دراسات على مدى العامين الماضيين للأحوال الإجتماعية والإقتصادية والسياسية في كلٍ كسلا، القضاف وبورتسودان أن تفشي العطالة واليأس من الفرص إشتداد حدة الفقر والركود الإقتصادي وهيمنة القلة الإسلاموربوية على السلطة والثروة تدفع بالكثيرين للحديث عن مغزي الرضوخ لهذه الأوضاع مما يهدد بنقلة نوعية وكمية خطيرة في حدة الصراع بالجبهة الشرقية. العديد من الرجال والنساء في المنطقة الشرقية يشيرون إلى ما تحمله الفضائيات من عمليات إنتحارية وعنف أقعد جهاز الدولة في العراق ودول أخرى الأمر الذي برمزية أهل الشرق يحمل مغازي كثيرة وخطيرة. لكن في نهاية المطاف تبقى مسئولية دفع المواطنين إلى هذا النوع من التفكير ترتد إلى سلوك الدولة والقوى المهيمنة.
بهذه الرؤية يتضح أن الشرق في طريقه إلى أن يكون دارفور أخرى، كما أن الأقاليم الجنوبية لاتجد حتى الآن معنى أو جاذبية للحفاظ على علاقتها بالمركز. وفي كل الأحوال تقع المسئولية الأساسية على عاتق المؤتمر الوطني، خاصة بعد تصريحات النائب الأول لرئيس الجمهورية. إذاً ما هي التطورات المتوقعة خلال الفترة القادمة، وكيف ستكون ردود ألافعال المترتبة عليها:
1. إتفاقية السلام، حكومة الوحدة الوطنية: إتفاقية السلام في طريقها إلى غرفة الإنعاش بسبب تعنت وقصر نظر المؤتمر الوطني وإصراره على الهيمنة الكاملة(سياسية /إقتصادية /إعلامية / إجتماعية..إلخ). الحركة الشعبية أرسلت إشارة قوية عبر رئيسها بأنها لن تكون الشريك المستضعف في السلطة، وأن مجريات الأمور في الخرطوم تجعل الإنفصال خياراً أفضل. لا يعني هذا بالضرورة إعلان وفاة الإتفاقية بقدرما يؤشر إلى تواصل التوتر والتناطح بين الشريكين. لكن ما تزال إحتمالات أن يغير المؤتمر من نهجه، وأن يصبح أكثر عقلانية وديمقراطية مستبعدة. الأرجح هو أن تتضاعف محاولات شق الحركة الشعبية بالمزيد من الإغراءات لكادرها وتأجيج نيران النزاعات القبلية والجهوية في الجنوب، ولا نستبعد تدبير المزيد من الحوادث المؤسفة بغرض تصفية العناصر الرافضة للمهادنة والخضوع لهيمنة المؤتمر الوطني.
2. ملف دارفور: الصراع مرشح للمزيد من التصعيد في ساحة المواجهات المسلحة، ومزيد من التشدد في المواقف على جبهة المفاوضات بين الأطراف. غير أن تعنت المؤتمر الوطني وعدم إشراكه الجاد للحركة سيجعلها تنفكي لا جنوباً كما يراد لها، ولكن الإكتفاء بدور المتفرج على الشريك الذي يواصل في حفر قبره مع التأكيد للحركات والقوى السياسية المعارضة في باقي أنحاء السودان أنها تود المشاركة في فض النزاع إلا أن البشير ومجموعته لا يقبلون بالنصح. وبالتالي هي الحركة لا تقبل تحمل ثمن الفاتورة السياسية قومياً أو دولياً بسبب تدهور الأوضاع في الإقليم.
محاولات المؤتمر الوطني للإطاحة بالحكومة التشادية بدأت ترتد عليهم كما تشير إلى ذلك المعارك الدائرة على طول الشريط الحدودي مع تشاد والهجمات المتزايدة على المواقع الحكومية التي تبدو عاجزة عن التعامل معها، هذا الوضع مرشح للتفاقم خاصة في حالة تغلب الحركات المسلحة بدافور على التناقضات بينها وتوحيد عملها العسكري والذي من الممكن أن يتطور مما يمكنها من فرض سيطرتها على الإقليم بأكمله وربما أبعد من ذلك. في مواجهة هذا التطور لانتوقع أن تبدل الخرطوم من طريقة تعاملها مع الأمور، وإنما نراها ساعية لعقد تحالفات مع القوى التقليدية كما تؤشر لذلك مجاهدات أمين الإتصالات السياسية (مصطفى إسماعيل) خلال الأسبوع الماضي في الخرطوم. تطور العمل العسكري في هذا الظرف قد يدفع بالمجهودات السياسية لجمع شمل قوى السودان القديم ضد الغزو التشادي، الصليبي الداعم لحركات دارفور.
من ناحية أخرى فإن نجاح أو فشل المؤتمر الوطني في كبح جماح التصعيد الميداني لثوار درافور يعتمد على مدى توفيقهم في مد جسور التواصل والعمل السياسي المشترك مع باقي القوى السياسية المعارضة والنجاح في تطوير خطاب سياسي وجهد إعلامي يوضح رؤاهم السياسية ونواياهم وأجندتهم المستقبيلية تجاه، لا المؤتمر الوطني وحده وإنما الدولة السودانية وموقعهم منها.
من كل ذلك يبدو المشهد العام برمته في غير صالح المؤتمر الوطني، فإذا أضفنا إلى ذلك تداعيات القمة الإفريقية والتي تعطينا صورة عن عزلته الإقليمية ورفض المجتمع الدولي له، تتضح أمامنا ملامح الأزمة الخانقة التي تمسك بعنق النظام. وفي مثل هذا المناخ إذا كنا محقين في رؤانا فيما يختص بالشراكة مع الحركة الشعبية في إتفاقية السلام وفي تداعيات الأوضاع بدارفور نتصور إن الخيارات الممكنة أمام مستقبل الدولة السودانية من الممكن تلخيصها في التالي:
1.إحتمالات الصوملة:
على خلفية الأوضاع في دارفور وما صاحبها من متغيرات داخل الحركات وبين بعضها البعض ومن حولها في الإقليم فإن المتوقع تقدمها على مسرح العمليات العسكرية، مصحوب بتعثر في المفاوضات. وبالتالي تدفق الصراع وآثاره خارج دارفور. إذاً العنف متوقع له الإنتشار تجاه المركز. في ذات الوقت مستصحبين معنا تطور مقابل على الجبهة الشرقية يتميز بتحول نوعي في العمليات العسكرية(الفدائية) كرد مباشر على مجهودات إبتداع "جنجويد" في الشرق. فإذا كان المدخل لتفتت الصومال هو إعتماد سياد بري للمليشيات في تعامله مع المعارضة فإن سودان الإنقاذ قد قطع شوطاً بعيداً على هذا الطريق. لذلك فمن غير المتوقع أن يعمل النظام على مواجهة تلك الكارثة التي تدق على أبوابه بالحكمة، بل سيستمر في ممارسة تكتيكات الهروب إلى الأمام والإصرار على أنه يحكم السودان حتى ولو تبقت الخرطوم هي الوحيدة التي تقع تحت سيطرته. وأيضاً المؤشرات على ذلك موجودة(خطاب الطيب مصطفى وعبدالرحيم حمدي).
2. إنتشار التدخل الدولي:
الإفتراض أن تمزق الدولة السودانية وتفتتها لن تقف تداعياته على السودان فحسب بل تتمدد للدول المحيطة به وهو ما يهدد الإستقرار والأمن الإقليمي والمصالح الدولية بها. وفي ذلك التطور أسباب كافية لدفع المجتمع الدولي على للتدخل المباشر على وفق الفصل السابع الذي يخول الأمم المتحدة لإستعمال القوة للتعامل مع أي أوضاع تهدد السلمي العالمي. هناك في السودان الآن 10 ألف من قوات الأمم المتحدة من 50 دولة منتشرة في الجنوب والشرق والخرطوم. أما قوات الإتحاد الإفريقي والبالغ عددها حتى الآن 7 ألف جندي يدور الحديث الآن لرفعها إلى 20 ألف وتحويلها إلى قوات أمم متحدة. وبإلاضافة لذلك هناك قوات شرطة دولية وإذاعات تابعة للأمم المتحدة في جوبا ودارفور وقريباً الشرق والخرطوم. في حديث آخر السودان أصبح فعلياً أقرب لمحمية دولية منه إلى دولة مستقلة ذات سيادة. أضافة لجملة تساؤلات حول كيفية الوصول لخطة تحدد انتهاء مهمة هذه القوات وتوقيت مغادرتها الاراضي السودانية؟ والاثار السياسية و الاقتصادية والاجتماعية/الثقافية اتواجدها؟
3. نجاح النظام في الخروج من أزمته(إعادة إنتاج النظام بشكل جديد):
أي قراءة لأحتمالات الأوضاع لابد أيضاً أن ترصد حتى أضعفها والتي في هذه الحالة أن يخرج النظام من عنق الزجاجة بفضل الإمكانات المادية الضخمة التي يمتلكها وإستعدادته في مقابل ضعف القوى السياسية الأخرى. فقد نجح وإلى حد بعيد حتى الآن في تفكيك المعارضة وهزيمتها في إنتخابات المحامين والمزارعين والنقابيين. على هذا المنوال يعتقد بعض المراقبين أنه بإمكانه منافسة الحركة الشعبية حتى في الجنوب، وأن ما يسمح به من أصوات داعية للإنفصال لا تعدو كونها تكتيك القصد منه التغطية على حقيقة نشاطه السياسي المنظم والهادف إلى تقوية أوضاعه في قواعد خصومه. نجاح النظام في تحقيق هذا الهدف بالتأكيد سيدخله مرحلة الشرعية الدستورية. لكن السؤال هو عما إذا كان "تسنامي" دارفور سيتأخر حتى موعد الإنتخابات ويعطي المؤتمر الوطني كل ذلك الوقت. كذلك قد يغير المؤتمر مواقفه تجاه مجلس الأمن ونشر القوات حتى ولو كان لتفادي محكمة الجنايات الدولية ويسعى إلى أن يستعمل التدخل الأجنبي لصالحه لأنه قد يحد من نشاط حركات المقاومة ضده، ويدفعها من جانب آخر إلى طاولة المفاوضات لحل الأزمة ودخولها إلى مسرحه(حكومة الوحدة الوطنية) حيث يسهل تفكيكها من خلال العمل السياسي. في حال تحقق هذا الإحتمال الضعيف يكون النظام قد نجح في أعادة إنتاج نفسه بصورة جديدة تكتسب الشرعية الدستورية.
خاتمة:
يبدو أن المستقبل أكثر تشاؤماً على صعيد تحقيق أجندة التغيير في السودان، وتبدو الحلول مستعصية وأكثر تكلفة، فالظروف الموضوعية لتحقيق ذلك لم تصل إلى مرحلة النضج بعد، سواء إن كان على صعيد الأوضاع العامة أو التغييرات داخل البني السياسية المعارضة للنظام. قي هذا الشأن فإن الضعف التنظيمي والهيكلي والفكري لقوى المعارضة بشكل عام وحركات التحرر في الشرق على وجه الخصوص هو العامل السحري في هيمنة المؤتمر الوطني، ولا تقل أهمية عن إعتبارات قدارته المادية. هذه القوى تحتاج إلى زمن ليس بالقليل لإستعادة فعاليتها السياسية لهزيمة النظام، وهو وضع يشترط أول مايشترط، مناخاً صالحاً للعمل السياسي، في ظل إحترام للدستور والرغبة الحقيقية في تنفيذ بنود إتفاقيات السلام المختلفة، وهي أمور لايبدو أن النظام مستعد على السماح بها. فشروط كهذه تصبح مدخلاً لمنافسته على السلطة تنتهي بتفكيكه على مدى زمني قد يطول أو يقصر. فكثير من القوى التي كانت تراودها أحلام العمل السياسي تحت ظروف إنفتاح وتحول ديمقراطي، فقدت الآن أي بارقة أمل في حدوث هذا التحول، بل إن بعضها يفكر في العودة للعمل المسلح مرة أخرى.
إن النظام لم تكن أبداً ضمن أجندته إحلال التسوية السليمة وإقرار التعايش بين أبناء الوطن الواحد، بقدرما كانت ـ أي هذه الإتفاقيات ـ مجرد أدوات لمزيد من "التمكين" وإكتساب الشرعية في ظل مجتمع دولي يتهمه بالإرهاب. فإتفاقية السلام مع الحركة الشعبية، وبدلاً من أن تتحول إلى أداة لتفكيكه كما كان يصر الوسطاء من أصدقاء الإيقاد أيام مشاكوس/نيفاشا، أصبح يستعملها الآن لتثبيت هيمنته على الأوضاع وسيطرته على الدولة. بإختصار إنعكس الوضع تماماً حيث يواصل المؤتمر الوطني مساعي إمتصاص الحركة داخله باللعب على تناقضاتها خاصة بعد الرحيل المفاجئ لقائدها. أما على صعيد التجمع الوطني الديمقراطي فالأمر أوضح من أن يعاد شرحه، فالحزب الحاكم نجح في تفكيك التجمع ليس بعد دخوله وإنما على ورقة إتفاق القاهرة نفسها، بمعني أنه لم يدفع بعد حتى ثمن هذا الإتفاق وبأي صورة كانت.
في نهاية المطاف لا نرى أن المؤتمر الوطني سوف يبحر في مياه هادئة في الفترة القادمة، وكما ذكرنا فأن "تسنامي" دارفور يلوح في الأفق ولا نظن أن المؤتمر الوطني بنهجه الذي ناقشناه هنا قادر على مقاومته. كما لانظن أنه قادر على الإنحناء للعاصفة بتغيير نهجه، وإنما وبإدمانه للتكتيك نتوقع أن يرمي بالتنازلات الوقتية المحدودة ويقدم على الخطوات الرمزية التي إعتمد عليها كثيراً في الماضي لتشكيل إنطباعات تخدم بقائه في السلطة. كذلك نراه يلعب على الأوتار الدينية والعرقية ويستجدي العواطف الشوفينية في الشارع السوداني، وبذلك قد يكسب يعض الوقت قبل أن يضربه الزلازل في المركز. العامل الأكثر تأثيراً في هذه المعادلة مرتبط بقدرة الحركات في الغرب والشرق في تطوير عملها السياسي وخطابها للمجتمع الوطني قبل الدولي حتى تتمكن من محاصرة نظام الخرطوم وسحب البساط السياسي من تحت قدميه.
***********
No comments:
Post a Comment